أسلوب تعديل السلوك و تعلم عادات جديدة
هناك قصة معروفة لتجربة هامة قام بها عالمان من علماء النفس .. ومن رواد العلاج النفسى السلوكى .. هما "واطسون و"راينر" .
فقد قام هذان العالمان بوضع فأر أبيض على مقربة من طفل صغير يدعى "ألبرت" كان قد أدخل المستشفى للعلاج من مرض غير نفسى .
وببراءة وتلقائية مد الصغير يده يتحسس ذلك الحيوان الصغير الناصع البياض .. عندئذ أصدر "واطسون" تعليماته باصدار صوت مزعج من خلف الطفل ، جعله يصرخ فزعاً ورهبة .
وتكررت التجربة عدة مرات .. وفى كل مرة يوضع الفأر الأبيض قريبا من "ألبرت" يصدر الصوت المزعج المفاجئ فيؤدى الى فزع الطفل وصراخه . ثم جاءت الخطوة الثانية من التجربة وذلك بوضع الفأر الأبيض قريباً من الطفل ولكن بدون إحداث ذلك الصوت المزعج ..
فماذا كانت النتيجة ؟
لقد ظل الطفل يصرخ بشدة فى كل مرة يرى فيها الفأر الأبيض حتى من على بعد امتار .. !
وبعد أن كان يتحسسه بأنامله .. أصبح فى حالة خوف وهلع شديد لمجرد رؤيته من بعيد !
والشئ الغريب أنه قد حدث للطفل بعد ما ذلك يسمى "بظاهرة التعميم" فقد أصبح الطفل يخاف ويفزع من أى شئ يشبه – من قريب أو بعيد – ذلك الفأر الأبيض .
لقد أصبح "ألبرت" يخاف بشدة من القطط والأرانب , بل ومن الكلاب ذات الفراء الابيض, بل وأكثر من ذلك .. فقد كانت تنتابه نفس النوبة من المخاوف والفزع إذا رأى حتى قطعة فراء ابيض ..!
ونلاحظ أن "ظاهرة التعميم " تلك تحدث فى الكثير من الحالات .. فالأب القاسى المتشدد الذى يضرب ابنه باستمرار ، ويعاقبه على كل صغيرة وكبيرة , تتسبب معاملته هذه فى خوف الإبن الشديد ، ليس من الأب فقط ، وإنما من رئيسه ، ومن كل رجل فى موقع سلطة أو نفوذ .
إن التجربة البسيطة التى شرحناها تثبت أن المخاوف المرضية والقلق النفسى الشديد هما عادات أو سلوكيات خاطئة متعلمة نتيجة تكرار التعرض لموقف مفزع أو مؤلم .
فتعرض الطفل "ألبرت" للفأر الابيض (المثير الطبيعى) لم تسبب له أى انفعالات مزعجة فى بداية الامر .
ولكن اقتران ظهور الفأر الابيض (المثير الطبيعى) بإحداث صوت مخيف مزعج (المثير الشرطى) أدى الى إثارة مخاوف الطفل وصراخه (الاستجابة) . وأدى تكرار مثل هذه التجربة الى ظهور سلوك غير صحى .. وظهور أعراض مخاوف مرضية .
فلقد أصبح الطفل "ألبرت" يعانى من خوف مرضى (فوبيا) يمكن أن يستمر معه طوال العمر !!
إن هذه التجربة تعنى إمكان إحداث مرض أو خلل نفسى بصورة تجريبية ! ..وبالتالى بإمكانية علاجه وإزالة أعراضه طبقاً لقواعد علم النفس والعلاج النفسى السلوكى أيضاً .
أى أن المرض النفسى سلوك متعلم ..
وإننا نتعلم الخوف والوساوس والقلق بل ونتعلم تكوين ارتباطات شرطية خاطئة يمكن أن تؤدى الى اختلال التفكير أو اضطراب الوجدان .
من هنا .. تؤكد نظريات التعلم وعلم النفس السلوكى أن المرض النفسى هو سلوك خاطئ متعلم .
بل إن المرض العقلى أيضاً كالفصام-من وجة نظر السلوكية –ليس إلا تعلماً متواصلاً لسلوك مضطرب( وهذا الموضوع محل جدال وأختلاف ) .. فالفصامى يتعلم منذ طفولته التناقض الفكرى والوجدانى ، وذلك عندما يتلقى من أبويه أوامر ورسائل (لفظية وغير لفظية) وتقول له افعل (س) ولا تفعل (س) ,أى افعل ولا تفعل نفس الشئ ..! عندئذ يفشل الطفل فى تكوين مفاهيم وتصورات واقعية وثابتة ومحددة .
وكما أننا استطعنا بالتجربة أن نحدث أعراضا مرضية .. فإننا نستطيع غرس سلوكيات وعادات صحية مرغوبة أيضاً .
ولكى نعالج حالة مثل حالة الطفل "ألبرت" فإن علينا أن نحدث اقترانا وارتباطا جديداً بين ظهور الفأر الأبيض (المثير الطبيعى) وبين (مثير شرطى) آخر يثير السعادة والسرور فى نفس "ألبرت" بدلا من ذلك الصوت المزعج المخيف ، كأن نقرن بين ظهور الفأر الأبيض وتقديم قطعة من الحلوى أو لعبة يحبها الطفل .
أى أن نخلق ارتباطاً جديد بين ظهور الفأر الأبيض وإحداث حالة من السرور والابتهاج – مصحوبة بالاطمئنان وعدم الخوف – للطفل "ألبرت" .
كما يشترط أن يتم تقريب الفأر أو أى بديل آخر ذى فراء أبيض بالتدريج ، فنبدأ بإظهاره من بعيد مع تقديم الحلوى أو اللعب التى تشيع فى نفس الطفل مشاعر السرور والطمأنينة ، وتتكرر التجربة وفى كل مرة يتم تقريب الفأر تدريجياً مصحوباً بمشاعر البهجة والاسترخاء , وهكذا نلاحظ أننا قدمنا للطفل نفس المثير الذى كان يسبب له الهلع والخوف والذعر (الفأر الابيض) ولكن مع كل مرة يظهر فيها كان المجربان يقدمان للطفل مايثير فى نفسه السرور والبهجة , فارتبط ظهور الفأر الابيض فى ذهن الطفل بمشاعر السرور والبهجة والطمأنينة .. فلم يعد يخشاه أو يفزع من رؤيته !
وهكذا تم استبدال استجابة الخوف والقلق عند الطفل "ألبرت" باستجابة السرور والطمأنينة .
ويوضح لنا ذلك أثر التكرار المتدرج فى تقديم المثير بدرجات بسيطة تزداد حتى تصل الى تقديم المثير عن قرب وبحجمه الطبيعى .
كما وأن تقديم ما يسمى بالتعزيز الإيجابى (التدعيم أو التشجيع أو الإثابة) للإستجابة المرغوبة يؤدى الى تعزيز وتدعيم السلوك المرغوب واستمراره حتى يصبح عادة – شبة ثابتة – من عادات الفرد .
واعتقد أن كلا منا قد شاهد مرة طفل يصرخ عند دفعه للاستحمام فى البحر لأول مرة , أو عند رؤيته لزائر غريب لم يألفه من قبل .. وكيف أن الأب الحكيم هو الذى يفطن الى استعمال إسلوب التشجيع والتطمين التدريجى لطفله الخائف, فهو بالتشجيع يساعد طفله على الاقتراب تدريجيا من الماء .. أو من ذلك الضيف الغريب ., ويقدم له المساعدة , فيضمه ويربت على كتفه ويبث فيه الطمأنينة والشجاعة .. وقد يكافئه بالحلوى إذا هو تشجع واقترب من ذلك الشئ الذى يخشاه ويخاف منه .
وبالتكرار واستمرار التدعيم والتشجيع نجد الطفل وقد بدأ يقترب أكثر ولكن بحذر كما لو كان يكتشف عالما مجهولا .
وباستمرار الاب فى اتباع مثل ذلك الاسلوب سيجد إبنه مقدما على النزول الى البحر واللهو والعبث فى مرح وسعادة دون أدنى خوف من الماء , وهكذا فإن تعلم اى سلوك جديد أمر ممكن ولكنه مشروط بالتعزيز والتدعيم والتشجيع .
اذاً .. فالتعلم هو تغير فى سلوك الفرد بحيث يمكن تعديله أو تشكيله أو صقله . وان ذلك التغير فى السلوك يمكن أن يستمر إذا تم تعزيزه بالمكافأة والتشجيع والتدعيم .
أما التغير فى السلوك الناتج عن العقاب أو الذى يرتبط بمشاعر الفشل أو الإحباط فهو تغير سطحى لايستمر طويلا بل وقد ينتج عنه سلوكيات مضاده غير صحية , وإن التخلص من أى عادة سيئة أو أى سلوك غير مرغوب يتوقف بدرجة كبيرة على أن إظهار هذه العادة السيئة تسبب للفرد مشاعر غير سارة وتؤدى الى نتائج غير ممتعة أو غير مفيدة أو ضارة مؤذية .
ويمكن أن يستخدم الإيحاء الذاتى فى المساعدة على استبدال السلوك الغير مرغوب بسلوك أخر مرغوب وذلك عن طريق التأثير اللفظى - كأن يقول الفرد لنفسه عبارات تشجيع وتدعيم عندما يسلك سلوكاً مرغوباً ..
وأذكر أثناء دراسة مادة التشريح فى كلية الطب .. قصة الزميلة التى كانت تردد باستمرار فى بداية العام الدراسى أنها لا تتخيل أن ترى جثة آدمية وأنها تتوقع أن تفشل فى مادة التشريح لأنها تخاف بل وتصرخ اذا رأت صرصارا أو فأرا صغيرا ,ومرت الشهور وفوجئ الجميع بالزميلة تمسك المشرط وتقوم بعملية تشريح إحدى الجثث الموجودة بالمشرحة .. ثم تقوم بشرح كل عضلة وكل وعاء دموى أو عصب وهى ممسكة به بين اصابعها !! وبمهارة تحسد عليها ..! فكيف حدث ذلك ؟
لقد اتبعت الزميلة – دون أن تقصد – إسلوبا من أساليب العلاج النفسى السلوكى ، وهو إسلوب إزالة الحساسية التدريجى مع التدعيم والتشجيع الذاتى .. فقد روت لنا كيف أنها عندما رأت لأول مرة اللافته المكتوب عليها اسم "المشرحة" إنتابها الخوف واضطرب قلبها ,ولكنها أخذت تقول لنفسها عبارات التشجيع حتى اقتربت من الباب والقت نظرة على المناضد الرخامية الموجودة بالداخل واكتفت المرة الأولى بهذه الخطوة .. ثم كررتها عدة مرات مع استمرارها فى تشجيع وطمأنة نفسها وطرد الافكار والتصورات المخيفة من ذهنها ..
وكانت الخطوة الثانية بالدخول عدة خطوات داخل المشرحة والخروج بعد فترة قصيرة والاكتفاء بإلقاء نظرة من بعيد على محتويات ذلك المكان الذى يثير اسمه الخوف والهلع فى نفوس الكثيرين .. مع استمرارها فى استخدام اسلوب تشجيع الذات وبث الثقة فى النفس .
تلا ذلك قيامها بعمل جولات يومية حتى تتعود على المكان تماماً وتخلص ذهنها ونفسها تماماً من الحساسية المرتبطة به .. وكانت تزداد ثقة واطمئناناً كلما رأت الزملاء يقومون بعملية تشريح الأنسجة الآدمية الميتة بمهارة وجرأة وثقة لكنها مع ذلك ظلت تخاف وتفزع إذا مارأت فأرا أو صرصاراً صغيرا ..! بل قد تصرخ وتقفز الى خارج الحجرة من الخوف والفزع ..!!
وهكذا .. فقد عالجت نفسها من مخاوف تشريح جثة آدمية ولم تعالج نفسها من الخوف من حشرة منزلية صغيرة ..
إننا نتعلم كل شئ ..
نتعلم الشجاعة أو الجبن ..
نتعلم الثبات والهدوء , أو الرعونة والقلق ..
نتعلم النشاط والصبر والتفاؤل , أو الكسل والتخاذل والتشاؤم ..
نتعلم النظام والدقة , أو الفوضى والمرض والارتباك .
ولا نبالغ إذا قلنا أن كل الكائنات والمخلوقات تخضع لعمليات التعلم وتغيير السلوك حتى أبسط الكائنات .
منقول